حاول رفاقنا الوطنيون الديمقراطيون المؤسسون (المعرفون بالألف واللام)، ومنذ نشأتهم كفصيل سياسي خلال السنة الجامعية 1976-1977 فهم الواقع المحيط بهم كما هو بالإعتماد على عناصر تحليل وفهم واقعية، بوصلتهم في ذلك النظرية الماركسية اللينينية وعملوا على تغييره. وماهي إلا سنوات قليلة حتى قوي حضورهم وتوضّح تميّزهم عن باقي الأطراف السياسية في الموقف والمبدأ والممارسة.
لم تخدعهم الأوهام المثالية ولم يستطع الإنتهازيون جرّهم إلى مستنقعهم، ولو أن كل القوى الرجعية والإنتهازية تكالبت ضدّهم، وحاولت دون جدوى تصفية وجودهم لما أصبحوا يمثّلونه من خطر عليهم. كان عددهم عند التأسيس قليلا، ولكن "ليس العدد هو الأمر المهم بل التعبير
الصحيح عن أفكار وسياسة البروليتاريا الثورية حقا" (لينين – مهمات البروليتاريين في ثورتنا- المؤلفات، المجلد 6، ص 398). وذلك ما أدركه رفاقنا وناضلوا من أجله منذ البداية، فتصدّوا للقوى الإنتهازية التي كانت تهيمن على الحركة الطلابية ودحضوا أتباعها وفضحوا أطروحاتهم وممارساتهم ومن بين أولئك التروتسكيون وأنصار الحزب الشيوعي التونسي الذين كانوا يحتلون موقعا قياديا في الحركة الطلابية إلى جانب مجموعات تحريفية أخرى مساومة على المبادئ ومهادنة للنظام التونسي العميل متعاونة مع الإمبريالية. وإما "الإخوان المسلمون" فكان مجرّد ذكر إسم الوطد يقض مضاجعهم. كيف لا وهم من مرّغ أنفهم في التراب في معارك عدّة وتصدّوا ببسالة لبرنامجهم المعروف لأسلمة الجامعة والمجتمع..
وفي خضم صراع متعدد الإتجاهات تطورت التجربة تطورا تدريجيا بطيئا وفي ارتباط وثيق مع تطور الصراع الطبقي والنضال الوطني في القطر والوطن العربي والعالم . ولكن نضال الوطد لم يرتقي إلى مستوى المساهمة الكبيرة المؤثرة في إحداث تحول نوعي في طبيعة المجتمع التونسي شبه المستعمر شبه الإقطاعي، وفي طبيعة النظام السياسي القائم المعبر عن مصالح الإمبريالية والإئتلاف الطبقي الرجعي العميل المتشكّل من البرجوازية الكومبرادورية العميلة والبيروقراطية وكبار الملاكين العقاريين. لتبقى الثورة الوطنية الديمقراطية ذات الأفق الإشتراكي هي الهدف البعيد المدى الذي يجب على الوطد العمل من أجله وصياغة تكتيكاتهم وبناء ذاتهم في سبيل تحقيقه، وعلى أية حال هناك دائما شيء يولد ويتطور وشيء يضمحل، وقد ولد الوطنيون الديمقراطيون وتطوروا وكانت نشأتهم أمرا جديدا في واقع هيمن عليه القديم ليعملوا بكل جهدهم على زواله واختفائه ألا أن الإنتماء الطبقي البرجوازي الصغير الذي كان غالبا بوضوح وضعف انخراطهم في صفوف الجماهير الشعبية الكادحة وفرار الكثير من عناصرهم "من الإشتراكية إلى وجهات النظر البرجوازية" ومن موقع الارتباط الطبقي بأصولهم العمالية والفلاحية الفقيرة إلى مواقع التذيل للإتلاف الطبقي الرجعي العميل وخدمة أجهزة حكمه وأسباب عديدة أخرى قد عطل مسيرتهم النضالية وشد حركتهم إلى الخلف رغم الإنجازات العديدة التي حققوها وقتها ومن أهمها:
- تأسيس تيار سياسي ثوري جديد بمرجعية ماركسية لينينية، معادي للإمبريالية وعملائها وللإنتهازية اليمينية واليسارية ولكل الأفكار والأحزاب المعبّرة عن الطبقات الرجعية. وهي عملية صعبة تطلبت اصرارا وصبرا ومثابرة، كللت في النهاية بالنجاح، وتابعت الأجيال المتلاحقة مهمة تطويرها والتصدي لأخطائها وتجاوز العوائق التي كانت تعترض سبيلها. ولكن التأسيس مسار طويل وشاق لبناء الذات الثورية المنشودة والتي لا تزال قيد التشكل.
- مواجهة الأطراف السياسية الرجعية والإنتهازية التي سيطرت لسنوات على الجامعة التونسية والتمكن من عرقلة نشاطها وانتشارها ومنعها من تنفيذ العديد من خططها وبلوغ أهدافها، مع تصفية وجود بعض تلك الأطراف مثل الحزب الشيوعي التونسي.
- تكريسا للمبدأ اللينيني القائل بأنه "لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية" سعى الرفاق الأوائل لتثبيت مبدأ التثقيف الثوري المستمر واستطاعوا رغم الصعاب والهنات أن ينشروا بينهم وفي صفوف الجماهير الطلابية أصول ومبادئ الفكر الماركسي اللينيني والتراث الثوري الأممي. وبعد تشكيل حللقات المناضلين كان تكوين وتثقيف تلك الحلقات المهمة التي تفانت قيادة الوطد وأطرها الوسطى في انجازها برغم ما اكتنف ذلك من صعوبات.
- وبالتوازي مع تلك الممارسة ظهرت الكتابات والدراسات الأولى للوطنيين الديمقراطيين وكذلك نصوصهم التحليلية لكثير من المسائل الملحّة المطروحة. كما تزامن ذلك مع تنظيم حلقات النقاش وتعليق النصوص الحائطية وكل ذلك بترتيب، ومن خلال وجهة نظر جديدة لم تكن تعرفها الحركة الطلابية من قبل. وكان التعبير السياسي بكل الأشكال منحازا للطبقة العاملة وفكرها مدافعا عنها وعن مصالحها ومصالح كل الشعوب المضطهدة في العالم .
- وإلى جانب الممارسة الميدانية النضالية الثورية داخل الأجزاء والمؤسسات الجامعية والهياكل النقابية المؤقتة وعلى رأسها اللجنة الجامعية المؤقتة التي أطرت النضال السياسي النقابي الطلابي خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي ، إلتحم الوطد بنضال شعبهم في الساحات والشوارع وتركوا بصمة نضالهم وقدموا الشهداء فداءا للشعب المضطهد ولكافة عمال وشعوب العالم.
ومع توطّد عملية البناء ونضوج التجربة أكثر أصبحت الأهداف الثورية التي يعمل الوطد على تحقيقها على المستوى الإقتصادي والسياسي والإيديولوجي أكثر وضوحا، ولم تعد الساحة الطلابية أهم مراكز وجودهم وإنما كان العالم أرحب فتواجدوا في النقابات وخاضوا النضالات في الساحات وارتفع مستوى وعيهم برسالة الطبقة العاملة الثورية وبدورهم فيها وفي حركة شعوب العالم الوطنية التحررية وكانت أخطاؤهم أيضا مرتبطة بانحرافات ظهرت في داخلهم وكان الفيصل في وحدتهم وتطهير أطرهم هو الصراع. (يتبع)